في حبّ الذين يحبّون أنفسهم

كنت فيما مضى أشعر بالنشاز والنفور ممن يتحدثون عن أنفسهم بخير وانسجام…وأرى من يفعل ذلك مغرورا قد حاد عن ملة المتواضعين..
وأما الذين ينشرون صورهم مع قلب فقد كان هؤلاء عندي من المجانين..
وقد انقلب بي الحال اليوم إلى حب هؤلاء والرغبة في الانضمام إلى حزبهم..

لا أدري كيف شرعنت عداوة النفس وكراهيتها والعمل ضدها عبر التاريخ تماما،لكن ما بت متيقنا منه من خلال تجربتي أن هذا السبيل هو من أهم السبل التي يسلكها الشيطان في هذا الزمان من أجل إفساد حياة الإنسان في الدنيا والآخرة..فهو إن زعزع الأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان – وهي نفسه-وشقها أصبح من السهل عليه قيادته إلى الهاوية واستدارجه نحو العذاب مهما كان حريصا على الطاعة والهدى.

ومن أهم أسباب هذه العداوة في نظري :
1.الجو النفسي المشحون الذي يسود الأسرة والمجتمع المحيط..

2.الجهل بأبجديات التعامل مع النفس وغياب الثقافة النفسية

3. عدم استعمال تعاليم الدين  كما ينبغي من قبل كثير من العلماء والدعاة في حل المشاكل المتجذرة في النفوس..

4.العرض المجتزأ والتعلم المجتزأ للدين

5.انتشار ثقافة التنمية البشرية لفترة ليست قصيرة ما أدى إلى الجهل المركب بالنفس

6.الحروب والاضطرابات السياسية والاجتماعية عززت من الشحن النفسي فأصبح المضطربون أكثر اضطرابا إلا من رحم الله..

والخطير في الأمر أن الإنسان الذي لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب غيره حبا سويا.. وهو إن أحب حقيقة ظهر حبه بشكل غير طبيعي وتشكل في سلوكيات غير متزنة..
وذلك بدءا من حبه لله تعالى حتى حبه لأقرب الناس إليه..
فمثلا قد يكون حبه متسلطا أو خانعا وقد يكون حبا متطفلا أو مستغلا.. وقد يكون حبه قائما على العطاء والتضحية بلا أخذ ولا حدود
وغيرها من أشكال الحب المشوهة.

وليس حب النفس هو تأليهها ولا الإعجاب بها إعجاب المزهو الفخور فهذا هو المذموم في الدين والعرف والعقل..
ولكن هو حب الخير الذي أودعه الله فيها والأنس به والسرور لأجله والامتنان لله له و الاعتزاز به في بعض الأوقات..

والعجيب أن الله سبحانه فصل لنا في القرآن المجيد هذا المعنى في عدة مواطن :
فهذا نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام يتغنى بنفسه ويتحدث عنها في آيات حكاها الله لنا تثير في النفس لواعج المحبة والأنس :
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}
{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم]
بالله! انظر واستمع إلى الآية الأخيرة…إنه عليه السلام يسلم على نفسه!
هل يجرؤ أحد في عصرنا أن يسلم على نفسه!
سيتهم بالجنون والغرور لاريب!
لكنها سنة نبوية، سنة السلام والانسجام النفسي البعيد عن التعالي والانتفاخ والوهم!

وانظر إلى نبي الله يوسف كيف يقول لعزيز مصر {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 55]

وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يعلن انسجامه ويعلو صوته في وقت انهزام المسلمين في حنين “أنا النبي لا كذب…أنا ابن عبد المطلب”

وانظر إليه كيف يتحدث عن نفسه في بعض الأحاديث :
عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :بعثتني قريشٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فلمَّا رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ألقيَ في قلبي الإسلامُ فقلتُ يا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنِّي واللَّهِ لا أرجعُ إليهم أبدًا قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ {إنِّي لا أخيسُ بالعَهدِ ولا أحبسُ البرد} ولَكنِ ارجِع فإن كانَ في نفسِكَ الَّذي في نفسِكَ الآنَ فارجِع قال فذَهبتُ ثمَّ أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فأسلمتُ
البرد:الرسول.

عن جبير بن مطعم أنَّهُ بيْنَما هو يَسِيرُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِن حُنَيْنٍ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حتَّى اضْطَرُّوهُ إلى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: أعْطُونِي رِدَائِي، لو كانَ لي عَدَدُ هذِه العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا، ولَا كَذُوبًا، ولَا جَبَانًا.

قال عليه الصلاة والسلام :أنا محمدُ ، وأنا أحمدُ ، وأنا نبيُّ الرحمةِ ، ونبيُّ التوبةِ ، وأنا الْمُقَفَّى ، وأنا الحاشرُ ، ونبيُّ الملاحِمِ.

إن كل ذلك إنباء عن حقائق لا أوهام! وكل ذلك إثبات للخير الذي تحمله أنفسهم الشريفة… وكل ذلك تزكية للنفس ومعرفة لها ولتقواها دون خجل هزيل أو مواربة كاذبة!
وإنه لخيط دقيق بين الحقيقة والوهم… وليس لنا من الأمر شيء سوى أن نحاول!

صلى الله عليهم وسلم ورزقنا حبهم وحسن اتباعهم والحشر معهم.

Continue Reading

شذرات حول نعمة الكتابة

تتميز الكتابة عندي أن القلم فيها لا يكذب…أو على الأقل أن احتمال أن يصدق فيها ولا يكذب أكبر بكثير من احتمالات اللسان.

تمر بك مواقف لا تستطيع بكلمة واحدة أو ببضع كلمات أن تقول ماتريد قوله.. عن حقيقة ماتريد أو ماتشعر به أو ماتراه.. فتقع في الكذب أو الاجتزاء شئت أم أبيت..
يمالئك على ذلك حينها خوفك و حذرك..مراعاة  الآخرين فوق مايلزم.. أو لا مبالاتك..أحكامهم الجاهزة أو الجائرة…ضعف مقاومتك لمغريات أن تبدو كاملا..وقلة حيلتك أمام النقص البشري عموما…ووجود من يقاطعك أو يغير مجرى كلامك ويشوه اتساق حديثك!
بينما كل ماسبق يمكن تحييده أمام الورقة أو الشاشة. هنا ليس ثمة سوى أنت وقلمك وربك وشيطانك والملكان الموكلان بك!

كما أن اللغة العامية فقيرة حقيرة.. لا تغني  ولا تسمن من جوع.. تراكيبها ركيكة..كلماتها سطحية…مفرداتها خانقة للشعور والنفَس والمعنى.
ولكم أتمنى أن تمّحي من أذهان الناس وترجع لغة العرب لغتنا.. ولكم أتمنى أن أتحلى بشجاعة أن أدخلها في كلامي اليومي.. ويالسعدي لو تحولت هذه الأمنية إلى رجاء!

إن القلم رئة ثالثة لها شهيق وزفير
وحاسة سادسة ترى وتسمع وتتكلم..
و بالرغم من كونها قد لا تغني كثيرا عن صاحبها دون أشياء أخرى مهمة.. إلا أنها تعلم وتبني وتهدم.

أحاول أن أتخيل نفسي دون كتابة…فلا أراها سوى كتلة مظلمة متشابكة مبعثرة غير مفهومة!
ولعلك تقول هي الآن كذلك!
ولكني أراها أفضل ألف مرة مما لو كانت بغير قلم… أي والله!
ولو أني أكتب أكثر مما أكتب لكنت شخصا آخر ولكانت لي حياة أخرى..ولكن قاتل الله الكسل!

فيا ربنا لك الحمد…

Continue Reading

الرماديون

أتذكر تلك الأيام التي كنت أشعر فيها كثيرا فأحن إليها…
أعذر أولئك الذين شعروا كثيرا حتى احترقوا و ماتت قلوبهم.. أعذر نفسي كذلك أحيانا.. ولكن لا أنكر أن هذا العذر خطيئة..

أقارن بين أن أكون باردا.. وبين أن أكون مشتعلا…فأحب أكون مشتعلا.لكن هذا الزمان زمان نفاق… يريدك أن تكون مشتعلا في أشياء… وباردا في أشياء أخرى.
يريدك باردا في دينك مشتعلا في دنياك.
باردا في أخلاقك مشتعلا في شهواتك.
باردا مع ربك… مشتعلا مع الناس. وأن تبقى فيه مشتعلا جهاد.

أحاول أن أشعل ما انطفأ مني…فأنجح أحيانا وأخفق أحيانا
أبحث عن سكن آوي إليه إذا ما ارتجفت روحي قبل أن تنطفئ فلا أجد.. فأفضل أن أبقى رمادا على أن أخاف…أحيانا.

لا أرتاح  للأحكام العامة “الباردة” على من فقدوا شعورهم بالحياة،الألم المستمر شيء لم يجربه هؤلاء الذين يطلقونها غالبا…بل إني أعتقد أن كثيرا من أولئك الذين تبدو عليهم اللامبالاة هم أكثر من كانوا يبالون…

على أن ثمة شيء قد يواسي ويبعث على استعادة الأمل والشفاء هو أن الحقيقة والحق شيء جميل وعذب ويبعث على الحب والسرور،لكنهما أحيانا مؤلمان قاسيلن وثقيلان،لاتستطيع أن تجزئهما وأن تأخذ بعضهما وتذر بعضهما..عليك أن تقبلهما كما هما في الدنيا،حتى يتحولا إلى سرور تام وحب كامل وحياة عذبة لا ألم معها في الآخرة.. هي هكذا.

فلنحاول أن نحيا للحق والحقيقة عسى أن نحيا بهما..

Continue Reading

بوصلة القلب

ثمة قاعدة أجدها تصلح لي.. وربما تصلح لك:
هذه القاعدة تقول :اتبع النور الذي في قلبك حيثما قادك ودون أن تعرف لماذا و إلى أين يقودك

هذا النور البعض يسميه حدسا والبعض يسميه أسماء أخرى ولا مشاحة في المصطلحات…
لكن ما أعرفه أنني ما ترددت يوما في اتباعه إلا وخسرت…وما اتهمته إلا وفشلت.. وماأثقلت عليه بأسئلة الشك والريب إلا انخذلت.. وما اتبعته إلا وصلت وأنجحت وأفلحت..
هذا النور أصبحت أؤمن أنه من نور الله سبحانه يهدي به الله أولياؤه سبل السلام… ويعلمهم به من غير معلم..ويرشدهم به في مسالك هذا الزمان الحالكة المضللة من غير مرشد.. ألم تقرأ قول الله تعالى :
“فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا..”
إنه نور الله الذي يضيء الصدور المظلمة والقيافي المقفرة..

ألم يحصل أن اخترت شيئا يبدو منطقيا خيارا خاطئا وكان هو اختيارك الصحيح  فيما تبين بعد لأنك اخترت ما اختار قلبك؟
ألم يحصل أن دست على قلبك واتبعت مايمليه عليك فكرك فوصلت إلى الخراب واللاشيء؟

ألم يحصل أن اخترت مكانا كانت تتوفر فيه كل شروط الراحة حسب المنطق لكن قلبك كان منقبضا وروحه كانت نافرة فاتبعت قلبك؟
أم لم تنفر عن شخص ما يبدو أنه إنسان جيد بالمعايير الظاهرة وكان قلبك يقول له لا؟
والعكس بالعكس…
ألست تختار عملا تبدو شروطه الظاهرة مجحفة وغير مناسبة لك لكن قلبك يهش له ويبش وكان هو المكان الذي فتح لك أبواب الخير والبركة..
ألست تجد إنسانا تبدو عليه أمارات تدل على أن لديه مالديه من الآفات والعيوب إلا أن قلبك اختاره ووجد معه أنسه وانشراحه بالرغم مما فيه..
إنها الأرواح ياصاحبي..أرواح الزمان والمكان والناس عوالم لا تُرى بالعيون المجردة.
يقول ﷺ:”الأرواح جنود مجندة فما تآلف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”

إن القلب إذا قذف فيه النور استشرف الغيب دون أن تراه وإذا ما تبعته قادك إلى الرشاد ولابد..ولو كانت الأسباب التي تراها عينك تبدي لك غير ذلك فإنما الأمور بخواتيمها. قال تعالى :{يهدي الله لنوره من يشاء}
{ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.
اللهم اجعل لنا نورا وأعظم لنا نورا واهدنا بنورك إلى نورك.

Continue Reading