الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه محاولة تدبرية لكتاب الله تعالى أتتبع فيها الآيات التي يفتح فيها الله تعالى باب الرجاء في رحمته وأمل الحياة بعفوه والإغاثة بأنواره،للمسرفين والعصاة،ولمن تنكب طريق الهداية بالأخص بعد أن سار فيه شوطا طال أم قصر.هذا المقال سيتم التعديل عليه وتجديده كلما فتح الله بمعنى جديد.
أول آية في كتاب الله تدل على سعة رحمة الله تعالى وحلمه وصبره على عباده قوله تعالى :
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}
انظر معي كيف أن الله سبحانه بعد أن ذكر أصناف الناس في أوائل السورة مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم لم يكتف بذلك..لم يقل لنا هؤلاء هم أصناف الناس وانتهى الأمر.. كلا بل هو يدعوهم جميعا إلى عبادته وحده كي يتقوا عذابه وينالوا رضوانه..يدعو الكافر إلى الإيمان ويدعو المنافق إلى الإخلاص له والمؤمن إلى الازدياد من الإيمان…فلم يقنط أحدا من العودة إليه سبحانه وتعالى..فعلام نيأس؟
الآية الثانية: قال تعالى:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}
هنا يخاطب الله تعالى الكافرين الذين في قلوبهم ريب وشك من آيات القرآن متحديا إياهم أن يأتوا بمثل القرآن.. حتى يعجزوا فيؤمنوا! ثم يدعوهم إلى اتقاء ناره التي أعدها للكافرين… فلم يقل لهم أيها الكافرون أنتم من أصحاب النار لأن في قلوبكم ريب.. بل فتح لهم بابا إلى رحمته.. فكيف بعد ذلك يقنط الإنسان؟
الآية الثالثة:{و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون}
من وسائل تيئيس الشيطان للإنسان أن يقول له أنت كنت تعرف طريق الحق والهدى ثم عصيت وأسرفت..فلا عذر لك ولا مجال لأن تتوب فيتوقف عن التوبة.
َوفي هذه الآية يمن الله على بني إسرائيل أن عفا عنهم بعد أن عبدوا العجل رغم معرفتهم أنه لا إله إلا الله ورغم معرفتهم السابقة بالإيمان ونصر الله لهم على فرعون ومع ذلك عرفهم الله طريق التوبة ثم تاب عليهم و عفا عنهم..
فلا تقنط مهما كنت ومهما فعلت.
الآية الرابعة:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة..
ولكن هل هذه هي النهاية؟
كلا.. بل الله عز وجل يقول لك: إن من الحجارة-والتي قد يكون منها قلبك- مايتفجر منها أنهار الإيمان..وهذه حالة من حالات عودة الإيمان إلى القلوب التي طال عليها الأمد
وإن منها لما يشقق.. يتسرب إليها ماء الإيمان فيخرج منها..وهذه حالة أدنى.
وإن منها.. لما يهبط من خشية الله… وهذه حالة عُليا.
الآية الخامسة :{يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} البقرة ١٢٢.
انظر-إن شئت- إلى كل مافعله بنو إسرائيل قبل هذه الآية من جرائم ومعاص…ثم تدبر كيف يناديهم الله سبحانه بلطف وتودد ويذكرهم بنعمته السابقة الأولى وهي تفضيلهم على أمم زمانهم بالنبوة والكتاب ليرجعوا إلى ربهم.فكيف تيأس من رحمة الله بك يامن قرأت الكتاب وآمنت به يوما وهو يدعوك لتقبل عليه رغم كل ماجنيت.
الآية السادسة:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159]
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 160]
انظر إلى عظم الجريمة، وهي كتم آيات الله وعدم تبينها للناس، وعظم العقاب وهو الطرد من رحمة الله..
ثم انظر إلى سعة الرحمة والحلم في الاستثناء.
{وأنا التواب الرحيم}
“الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي..
الرحيم بهم بعد إقبالهم علي” تفسير البغوي.
.الآية السابعة:
{فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 192]
( فإن انتهوا ) عن القتال والكفر ( فإن الله غفور رحيم ) أي غفور لما سلف رحيم بالعباد
البغوي.
إذا كان الانتهاء عن الكفر وقتال المؤمنين يوجب المغفرة والرحمة
فكيف بالمسلم العاصي الذي ينتهي؟
الآية الثامنة :
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران : 86]
{أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران : 87]
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} [آل عمران : 88]
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران : 89]
انظر إلى هذه الآيات الملأى بالتهديد والتخويف الذي قد يقود أحدنا إلى حافة اليأس والقنوط والسقوط ثم يأتي الاستثناء لينتشلك ويضعك في ماء الحياة فيورق فيك الأمل من جديد وتتألق فيك أنوار الرجاء والحياة.
ورد في تفسير الإمام البغوي أن الحارث بن سويد لحق بالكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم، فندم، وأرسل إلى قومه في المدينة أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فأنزل الله هذه الآية آية الاستثناء.ففي هذه الآية دليل على أن من كفر بعد الإسلام ومن انتكس بعد أن عرف طريق الحق له عند الله عهدأن يتوب عليه إن ندم وعاد وأصلح. فكيف يقنط بعد ذلك مسلم؟
الآية التاسعة :
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 135]
إنَّ عَبْدًا أصابَ ذَنْبًا – ورُبَّما قالَ أذْنَبَ ذَنْبًا – فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ – ورُبَّما قالَ: أصَبْتُ – فاغْفِرْ لِي، فقالَ رَبُّهُ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ أصابَ ذَنْبًا، أوْ أذْنَبَ ذَنْبًا، فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ – أوْ أصَبْتُ – آخَرَ، فاغْفِرْهُ فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أذْنَبَ ذَنْبًا، ورُبَّما قالَ: أصابَ ذَنْبًا، قالَ: قالَ: رَبِّ أصَبْتُ – أوْ قالَ أذْنَبْتُ – آخَرَ، فاغْفِرْهُ لِي، فقالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاثًا، فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ.
الآية العاشرة:
{والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما} [النساء ٢٧].
يتبادر إلى أذهاننا أحيانا إذا فعلنا ذنبا أو أخطأنا خطيئة أو تعمدنا معصية ما أن الله متربص بنا وسيعاقبنا.. ويذكرنا الشيطان في الوقت المناسب لعداوته أن الله بما نعمل بصير وأنه شديد العقاب… كل ذلك بعد أن نكون قد قضينا وطرنا من الشهوات وانتهى الأمر لماذا؟
حتى يوقعنا في المعصية الأكبر.. اليأس من رحمة الله..وسوء الظن بالله…
ولكن المفاجأة التي قد لا نذكرها دوما…هي أن الله ينتظر منا بعد المعصية أن نتوب و لا يتربص بنا ليعاقبنا..
واقرأ إن شئت قوله تعالى مرة أخرى {والله يريد أن يتوب عليكم}
الآية الحادية عشر:
{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله الله توابا رحيما}
هذه الآية جاءت بعد آيات تتحدث عن منافقين تحاكموا إلى الطاغوت.. إلى غير الله تعالى ورسوله.
فهل بعد ذلك يقنط إنسان يعقل؟