أحد أحلامي الدفينة المخذولة في هذه الدنيا أن أحادث أحدا أحبه ويحبني.. فأحكي له انتصاراتي الصغيرة على هذه الدنيا المتكالبة وعلى ظلامها الكالح، على كآبة نفسي، وتاريخ هزائمي، على عدونا التاريخي ابليس، على أسقامي التي رافقتني أكثر من أي أحد عرفته في هذه الحياة، وكانت وفية-ياللسخرية-لي أكثر من وفاء أي أحد.. بل أكثر من وفائي لنفسي، انتصاراتي الصغيرة على كل شيء يدعوني إلى أن أدفن نفسي وأغمض عيني عن رؤية أي شيء وأستسلم للعدم..
أن أحادثه عن خيط النور، وبرق الأمل، والبهجة الندية القصيرة، والنضرة التي كست وجهي على حين غرة..
أن أحدثه عن ذلك.. فأرى برقة عينيه وابتهاج روحه وفرحته البريئة الخالية إلا من صفاء الحب ونقاء الطهر..
لكني أصارحكم.. أني لا أجد هذا الحلم سهل المنال.. وإني لأرى بيني وبينه مفاوز وقيافي وإدلاج..
أصعب وظيفة على وجه الأرض
أصعب وظيفة وعمل في الحياة هو الدّعوة إلى اللّه والتعليم وقيادة البشر عموما… لأنه لا يخضع لقوانين مادية ثابتة الأسباب فيها تؤدي إلى النتائج بنسبة كبيرة دائما..
ففي الفيزياء والهندسة والطب ثم طرق وأسباب تؤدي إلى نتائج معينة.. ثمة أشياء تدل على أشياء بوضوح كبير..
أما في الدعوة والتعامل مع الإنسان عموما.. ثمة غموض كثيف لا تجليه إلّا آي القرآن..
ومع ذلك الله سبحانه يقول لنبيه :”إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى”
أنت لا تعلم يقينا من سيضل ومن سيهتدي وماعليك إلّا البلاغ! أي مهمة أشق وأصعب من مهمة لا نتائج فيها مضمونة!
أي مهمة قام بها الأنبياء بأن بذلوا كل ما بوسعهم لينقذوا أناسا من النار والعذاب فلم يجدوا ما أرادوا!
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}
أي ألم أشد من ألم بخع النفس على شيء لا طاقة لك به!
ترى كيف تحمل النبي الذي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد كل آلام الغربة وانعدام النتائج الملموسة!
أنا شخصيا أعمل كصيدلي وأصرف دواء بدون وصفة أحياناً ولا أعلم بنتيجة الدواء مافعل بالمريض في أكثر الأحيان فأجد في نفسي ما أجد!
فكيف بداعية أو معلم خاصة في أول أمره لا يجد ثمار مايفعل!
هنا يتبين لك سرّ ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل موته حين رأى سيدنا أبا بكر يصلي بالناس:
أَخْبَرَنِي أنَسُ بنُ مَالِكٍ الأنْصَارِيُّ – وكانَ تَبِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخَدَمَهُ وصَحِبَهُ – أنَّ أبَا بَكْرٍ كانَ يُصَلِّي لهمْ في وجَعِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، حتَّى إذَا كانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وهُمْ صُفُوفٌ في الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِتْرَ الحُجْرَةِ يَنْظُرُ إلَيْنَا وهو قَائِمٌ كَأنَّ وجْهَهُ ورَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ برُؤْيَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنَكَصَ أبو بَكْرٍ علَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَارِجٌ إلى الصَّلَاةِ فأشَارَ إلَيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ أتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِن يَومِهِ. [1]
[1]البخاري 1205.
شذرات حول نعمة الكتابة
تتميز الكتابة عندي أن القلم فيها لا يكذب…أو على الأقل أن احتمال أن يصدق فيها ولا يكذب أكبر بكثير من احتمالات اللسان.
تمر بك مواقف لا تستطيع بكلمة واحدة أو ببضع كلمات أن تقول ماتريد قوله.. عن حقيقة ماتريد أو ماتشعر به أو ماتراه.. فتقع في الكذب أو الاجتزاء شئت أم أبيت..
يمالئك على ذلك حينها خوفك و حذرك..مراعاة الآخرين فوق مايلزم.. أو لا مبالاتك..أحكامهم الجاهزة أو الجائرة…ضعف مقاومتك لمغريات أن تبدو كاملا..وقلة حيلتك أمام النقص البشري عموما…ووجود من يقاطعك أو يغير مجرى كلامك ويشوه اتساق حديثك!
بينما كل ماسبق يمكن تحييده أمام الورقة أو الشاشة. هنا ليس ثمة سوى أنت وقلمك وربك وشيطانك والملكان الموكلان بك!
كما أن اللغة العامية فقيرة حقيرة.. لا تغني ولا تسمن من جوع.. تراكيبها ركيكة..كلماتها سطحية…مفرداتها خانقة للشعور والنفَس والمعنى.
ولكم أتمنى أن تمّحي من أذهان الناس وترجع لغة العرب لغتنا.. ولكم أتمنى أن أتحلى بشجاعة أن أدخلها في كلامي اليومي.. ويالسعدي لو تحولت هذه الأمنية إلى رجاء!
إن القلم رئة ثالثة لها شهيق وزفير
وحاسة سادسة ترى وتسمع وتتكلم..
و بالرغم من كونها قد لا تغني كثيرا عن صاحبها دون أشياء أخرى مهمة.. إلا أنها تعلم وتبني وتهدم.
أحاول أن أتخيل نفسي دون كتابة…فلا أراها سوى كتلة مظلمة متشابكة مبعثرة غير مفهومة!
ولعلك تقول هي الآن كذلك!
ولكني أراها أفضل ألف مرة مما لو كانت بغير قلم… أي والله!
ولو أني أكتب أكثر مما أكتب لكنت شخصا آخر ولكانت لي حياة أخرى..ولكن قاتل الله الكسل!
فيا ربنا لك الحمد…
الرماديون
أتذكر تلك الأيام التي كنت أشعر فيها كثيرا فأحن إليها…
أعذر أولئك الذين شعروا كثيرا حتى احترقوا و ماتت قلوبهم.. أعذر نفسي كذلك أحيانا.. ولكن لا أنكر أن هذا العذر خطيئة..
أقارن بين أن أكون باردا.. وبين أن أكون مشتعلا…فأحب أكون مشتعلا.لكن هذا الزمان زمان نفاق… يريدك أن تكون مشتعلا في أشياء… وباردا في أشياء أخرى.
يريدك باردا في دينك مشتعلا في دنياك.
باردا في أخلاقك مشتعلا في شهواتك.
باردا مع ربك… مشتعلا مع الناس. وأن تبقى فيه مشتعلا جهاد.
أحاول أن أشعل ما انطفأ مني…فأنجح أحيانا وأخفق أحيانا
أبحث عن سكن آوي إليه إذا ما ارتجفت روحي قبل أن تنطفئ فلا أجد.. فأفضل أن أبقى رمادا على أن أخاف…أحيانا.
لا أرتاح للأحكام العامة “الباردة” على من فقدوا شعورهم بالحياة،الألم المستمر شيء لم يجربه هؤلاء الذين يطلقونها غالبا…بل إني أعتقد أن كثيرا من أولئك الذين تبدو عليهم اللامبالاة هم أكثر من كانوا يبالون…
على أن ثمة شيء قد يواسي ويبعث على استعادة الأمل والشفاء هو أن الحقيقة والحق شيء جميل وعذب ويبعث على الحب والسرور،لكنهما أحيانا مؤلمان قاسيلن وثقيلان،لاتستطيع أن تجزئهما وأن تأخذ بعضهما وتذر بعضهما..عليك أن تقبلهما كما هما في الدنيا،حتى يتحولا إلى سرور تام وحب كامل وحياة عذبة لا ألم معها في الآخرة.. هي هكذا.
فلنحاول أن نحيا للحق والحقيقة عسى أن نحيا بهما..