عقدة نقص…أو نقص الأنفس

​علمني عبد الرحمن غنم أن الفقر (العرفاني)عند محمد إقبال هو التحرر من الطمع… والطمع هو مد العين إلى زهرة الحياة الدنيا ومتاعها

” لا تمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا “

وقد تأملت في نفسي..فوجدتني غير متحقق بفقري..وفي ذات الوقت أنا من أزهد الناس في أكثر المتاع المادي..لا أقول هذا ادعاء ، بل هو محض فضل الله تعالى،قد جبلت على ذلك ولم أصل إليه.هذا التناقض أدى بي إلى التساؤل، فاكتشفت أنه يوجد طمع من وجه آخر ، هو أخطر وأخفى وأدهى …

طمع العصر…

وجدت أن الطمع لا يكون في الحاجات والكمالات المادية فقط بل يكون أيضا  في الحاجات والكمالات المعنوية..أو (الزينة النفسية).ونفوس هذا الزمان شرهة إلى الشعور بالاتحاد والانسجام مع الآخر أيا كان هذا الآخر …جنسا أو مجتمعا أو عملا..كما يقول إريك فروم في (فن الحب).

“أنت واحد معقد” 

وإذا أردنا أن نلقي نظرة إلى هذا النقص بعين العقل الجمعي أو ماوجدنا عليه آباءنا فإن هذه الحاجة هي عقدة نقص…وصاحبها معقد…ويحتاج إلى علاج نفسي وطبيب نفسي..والعلاج النفسي والطبيب النفسي مايزالان سبة وشتيمة في العرف الشائع ، وإن كان هذا العرف قد بدأ مسيره نحو الأفول والزوال بفضل الله…

أبجديات

و إذا ألقينا نظرة نفسية علمية إلى هذه الحاجات نجد في الأبجديات،أنها موضوعة في تدرج هرمي اسمه هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية المادية والمعنوية… أضيف إليه لا حقا الحاجة إلى التسامي..أي تجاوز الذات.

وأي نقص في أحد مستويات هذا الهرم ينتج عنه خلل،مالم يستدرك بالتربية أو الدعم النفسي تحول إلى مرض حقيقي أو (( عصاب )) يحتاج إلى العلاج مثله مثل السرطان والسكري وكل الأمراض الشائعة الأخرى…

للقرآن كلمة أخرى…

وإذا نظرنا إلى هذه الحاجة بقلب قرآني وجدنا أن نقص الأنفس قد ذكر في معرض آيات البلاء في سورة البقرة
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والأنفس والثمرات…” الآيات.

فنقص الأنفس ابتلاء من الله،كما هو نقص الأموال والثمرات…وكما يوجد نقص غذاءونقص مياه في مجاهل افريقيا…هنالك نقص تقدير ونقص احترام ونقص اهتمام ونقص حب ونقص أمن نفسي في آفاق العالم كله…

المتسولون

والمتسولون لنظرة اهتمام أو ابتسامة قبول  كثر…والبائعون لدينهم بثمن بخس على بازار الغنى الشعوري ولو كان وهما لحظيا يتكاثرون… والصابرون قليل.والامتناع عن الاندماج في الجماعة في سبيل الحق صعب للغاية…وهذا ماتجلى بشكل فاضح على وسائل التواصل الاجتماعي..حيث يغيب الحضور الحقيقي وتظهر الآفات..

في هذا السياق، كنت أقرأ لأبي حيان التوحيدي لأول مرة منذ فترة قصيرة…فكان أول ماقرأته له دعاء استفتاح يقول فيه :

(اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق. وعلما بريئا من الجهل.  وعملا عريا من الرياء..وقولا موشحا بالصواب..وحالا دائرة مع الحق ؛ نعم ،وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر…)

ما استوقفني في هذا الدعاء هو كلمة ( نعم ) سألت نفسي نعم جواب لسؤال ؟ فأين موضع الجواب والدعاء سؤال؟

ثم كتبتها ملاحظة :لماذا قال نعم ؟

فأجبت ، ربما سأله الله وهو يناجيه بعد أن قال “وحالا دائرة مع الحق” ، على مافي ذلك من ألم ،وغربة ، ووحشة،وكفران صديق ، ونكران عشير، وظلم قريب ،وغدر عدو ؟

فأجاب ربه أن : نعم.
قد يعيش الإنسان حياة ملؤها الغنى مع حبة تمر وكسىرة خبز…ولكنه يفنى نفسيا بلا نسيج يضمه ولا حضن يؤيه ولا كتف يسنده إذا آل إلى السقوط…وليس بغريب أن يجعل الله من أصناف العذاب التي يجازي بها الظالمين و المستكبرين والمفسدين هو ألا يحبهم..

وجعل من خسرانهم أنهم” خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة”

فهم وإن عاشوا الحياة الدنيا بكل لذائذها واستمتعوا بها فإنهم محجوبون عن الله… و عذاب الحجاب أعظم عذاب كما يقول العارفون..وإن أردت الاستزادة فاستمع لخطبة الدكتور النابلسي (العذاب النفسي لأهل النار)

الذي خلق فسوى ”
لقد خلقنا أسوياء، فطرة الله التي فطر الناس عليها…وقد جاء الإسلام ليعيدنا إلى تلك الفطرة..فليس من العيب أن تعترف بنقصك…وترجو الله أن يكفيك بحلاله عن حرامه،وتسلك سبيل الرشاد حتى يتم لك نقصك وتصبح من الأغنياء…وقدكان من دعاء النبي “اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك

مطالبون نحن بالتسوية ” يقول الدكتور علي ابو الحسن”

وابدأ انا بنفسي وأقول إنه لا زال عندي شيء من عقدة المازوخية وبقايا من عقدة الذنب ، أعمل على معالجتها.

خلاصة

الطمع هو الشراهة لإشباع حاجة يلمسها الطامع في نفسه…سواء كانت مادية أو معنوية..الحرص هو مايغذي هذه الحاجة ويحولها إلى طمع..

والتسامي بتجاوز الذات إلى الآخر أو “الغيرية” كما يقول فيكتور فرانكل في (الإنسان يبحث عن المعنى) هو مايجعل لحياتنا معنى في ظل الفاقة.والعفاف والتصبر هو مايحد من أثرها السيء على حياتنا في الدنيا والآخرة.والله رحيم حنان منان…يمد المتصبرين بزاد الصبر ،إلا أن ذلك لا يعفي المجتمع من مسؤولياته ، ولا الفرد من محاولاته لإيجاد النسيج الذي يناسبه.

مقالات قد تعجبك